ترجمة أبي العلاء


اسمه أحمد، وكنيته أبو العلاء، واسم أبيه عبد الله بن سليمان المعري، وبلده معرة النعمان، وهي قرية صغيرة في شمال سوريا بين حلب وحمص.

وُلد قبل مغيب شمس يوم الجمعة، وهو الثامن والعشرين من ربيع الأول، سنة ثلاث وستين وثلثمئة هجرية، وهي توافق سنة ثلاث وسبعين وتسعمئة للمسيح.

وفي السنة الرابعة من حياته (٣٦٧ﻫ) أصيب بالجدري، فكاد يودي بحياته، ولم يغادره حتى ذهب بعينه اليسرى وغَشَى اليمنى بالبياض ثم بالعمى، وبهذه الحادثة تمت أول نكبة أعدها له الزمن، فكان لها في حياته أكبر الأثر.

ذهب إلى الدراسة في حلب بعد أن أتم الدراسة على أبيه — وكانت حلب في زمنه مكتظة بأفاضل العلماء ورجال الأدب، ممن دعاهم سيف الدولة في زمنه وأغدق عليهم النعم، فملؤا حلب علمًا، في زمنه وبعد موته، فانتفع بعلمهم أبو العلاء.

ثم سافر إلى أنطاكية ووعى ما شاء من نفائس الكتب التي وجدها في مكتبتها الشهيرة، وكان بها كثير من الروم، الذين شاهد أبو العلاء صَوْلتهم واعتزازهم بها.

ثم سافر إلى طرابلس الشام، ومر باللاذقية في طريقه، فنزل بديرٍ فيها، وأخذ — عن راهب فيه كان دارسًا لعلوم الفلسفة وغيرها — كثيرًا من الآراء. واشتدت الصلة بين أبي العلاء وبين النصارى واليهود، حتى تمكن من درس دينهم ومناقشتهم فيه، ثم عاد إلى معرة النعمان.

ومات أبوه وهو في الرابعة عشرة من عمره سنة ٣٧٧، فرثاه بنُونيته المعروفة في سقط الزند، وهي تمثل شعره في صباه.

ثم رحل إلى بغداد سنة ٣٩٨، وذاع بها صيته، واطلع على مكاتبها الشهيرة، واشترك في المجامع العلمية والأدبية العامة والخاصة.

ثم دعاه إلى مغادرة بغداد مرضُ أمه وفقرُه مع أنفته من التكسب بشعره وأدبه، فتركها في رمضان سنة ٤٠٠ﻫ، واحتفل بتوديعه أهل بغداد وحزنوا على فراقه أشد الحزن.

وإنه لفي طريقه إلى المعرة إذ وافاه نَعْيُ أمه، فتمت نقمته على الدنيا. وكانت تلك النكبات الفادحة التي لقيها في حياته، أكبر باعث له على الأخذ بقانونه الصارم الذي سَنَّه لنفسه: وهو اعتزال الناس.

وقد حاول تنفيذ هذا القانون، فلم يُوفَّق إلى ذلك؛ لالتفاف الطلاب حوله، وإقبال الكثيرين من المعجَبين به على زيارته، ووفودهم إليه من بلاد نائية ليتلقوا عنه العلم.

وكان له وَقْفٌ يحصل منه كل عام على ثلاثين دينارًا، يعطي خادمه نصفها وينفق على نفسه النصف الآخر. وكان فقيرًا متقشفًا زاهدًا لا يمدح أحدًا طمعًا في مال أو جاه، يأكل الشعير ويلبس الصوف الغليظ.

وهو أول من خَطَّ للشعر العربي طريقًا جدية فلسفية خاصة به، وملأ شعره بأسمى المبادئ الاجتماعية والأدبية والعالمية، التي انفرد بها دون سواه من بين شعراء العربية جميعًا.

أما كُتبه فعديدة قيِّمة، ولكن أكثرها قد فُقِدَ لسوء الحظ ولم يبق لنا منها إلا سقط الزند، ويحتوي شعرَه في عهد الشباب، وليس فيه إلا بضع قصائد بلغت الذروة في الإجادة، أما الباقي فأكثره متكلَّف سخيف أفسدته المبالغات والتقليد، وقد اعترف بذلك في مقدمته. وكتاب اللزوميات، ويعد في نظرنا أنفس ديوان عربي، ويشمل جمهور الفلسفة العلائية الرائعة، رغم ذلك القيد الثقيل الذي أخذ به نفسه، وهو مضاعفة القافية. وديوان الدرعيات، وهو خاص بوصف الدروع. ورسالة الملائكة، ورسائله التي طبعها مرجليوث.

ومن أمتع ما كتبه: رسالة الغفران، التي تُعَدُّ — بحق — أنفس أثر له بعد كتاب اللزوميات، والتي خصصنا لدراستها مقدمة الجزء الثالث من هذا الكتاب.

وإنما أطلق عليها هذا الاسم (الغفران)؛ لأن الفكرة الرئيسية التي دفعته إلى إنشائها — وقت إجابته على رسالة ابن القارح — هي مناقشة من فازوا بالمغفرة ومن حُرموها في الدار الآخرة. ومما يسترعي انتباهتك فيها، أنه كان يكثر من سؤال من يصادفه في الجنة: «بم غفر لك؟» كما كان يكثر من سؤال من يجده في النار: «لم يغفر لك قولك …؟ إلخ».

ونحسب أن أبا العلاء بعد أن لازمته فكرة البعث تلك المدة الطويلة، وبعد أن أنضجها في لزومياته، وأتى بها في صور شتى، ردد في كثير منها ميله الشديد إلى استفسار من ماتوا عما لقوه من أصناف النعيم أو العذاب، وود لو أتيح له الظفر بسؤال واحد منهم، ليأخذ عنه اليقين، ويضع حدًّا لشكوكه وحيرته، كما تراه في قوله:

لو جاء من أهل البلى مُخْبِر سألت عن قوم وأرَّخْت هل فاز بالجنة عُمَّالُها؟ وهل ثَوى في النار نوبخت نقول: إن أبا العلاء بعد أن يئس من مثل تلك الأماني الباطلة، لجأ إلى الخيال — وما أوسع عالمه، إذا ضاق بالإنسان عالم الحقائق — وأودع هذه الرسالة خلاصة أفكاره، وهي في اعتقادنا أوضح وأدق وأبرع صورة شعرية، قرأناها عن البعث وأحوال الناس فيه.

وقد كتب هذه الرسالة في سنة ٤٢٤ﻫ وهو في الثالثة والستين من عمره (انظر جزء ٢).

•••

ومن أهم كتبه المفقودة: كتاب الأيك والغصون، الذي نيفتْ أجزاؤه على المئة، ولا يعلم — إلا الله وحده — مقدار الخسارة العظيمة، بل النكبة الفادحة، التي ألمَّتْ بالأدب العربي من جراء فَقْدِ هذا الكتاب الذي أخرجه ذلك الرأس المفكِّر العظيم. ولسنا نرتاب فيما قالوه عن محتويات ذلك السِّفر الجليل؛ فإن الذي يجيب صاحبًا له برسالة كرسالة الغفران، ويقول في مقدمة لزومياته: «كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية أوراق تَوَخَّيْتُ فيها صدق الكلمة … إلخ».

إن رجلًا يفعل ذلك، لا نستبعد عليه، إذا قصد إلى التأليف أن يُخرج للعالم مثل ذلك الكتاب الجليل الشأن.

نيفَ أبو العلاء على الثمانين سنة، ثم أودتْ به علة لازمته أيامًا ثلاثة، وكان موته في اليوم العاشر من ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمئة.


مشاركة في شبكات التواصل الإجتماعي: