من رسالة ابن القارح [^1]
«كنتُ أدرس على أبي عبد الله بن خالويه — رحمه الله — وأختلف إلى دار أبي الحسين المغربي. ولما مات ابن خالويه، سافرت إلى بغداد، ونزلت على أبي علي الفارسي. وكنت أختلف إلى علماء بغداد: إلى أبي سعيد السيرافي، وعلي بن عيسى الرماني، وأبي عبيدة المرزباني، وأبي حفص الكتابي. وكتبت حديث رسول الله ﷺ، وبلغت نفسي أغراضها جهدي، والجهد عاذر.»
•••
«ثم سافرتُ منها إلى مصر، ولقيت أبا الحسن المغربي، فألزمني أن لزمته لزوم الظل، وكنت منه مكان المِثْل، في كثرة الإنصاف والحُنو. فقال لي سرًّا: «أنا أخاف همة أبي القاسم أن تَنْزوِ به إلى أن يوردنا وردًا لا صدر عنه.» وقال لي يومًا: «ما نرضى بالخمول الذي نحن فيه.» فقلت: «وأيُّ خمول هنا؟ تأخذون من مولانا في كل سنة ستة آلاف دينار، وأبوك من شيوخ الدولة، وهو مُعَظَّم مُكَرَّم!» فقال: «أريد أن تُصار إلى أبوابنا الكتائب والمواكب والمقانب، ولا أرضى بأن يُجرى علينا كالولدان والنسوان.» فأعدتُ ذلك على أبيه، فقال: «ما أخْوَفَني أن يَخضِب أبو القاسم هذه من هذه»، وقَبَض على لحيته وهامته.
وعلم أبو القاسم بذلك، فصارت بيني وبينه وقفة».
•••
وأنفذ إلي القائد أبو عبد الله الحسين بن جوهر، فشرفني بشريف خدمته، فرأيت الحاكم كلما قتل رئيسًا، أنفذ رأسه إليه، وقال: «هذا عدوي وعدوك يا حسين.» فقلت: «مَنْ بَرَّ يومًا، يَرَ به، والدهر لا يفتر به.» وعلمتُ أنه كذا يفعل به.
•••
فاستأذنته في الحج، فأذِنَ، فخرجت في سنة سبع وتسعين، وحججت خمسة أعوام.
وعدت إلى مصر، وقد قتَله، فجاءني أولاده سرًّا، يرومون الرجوع إليهم، فقلت لهم: «خيرُ ما لي ولكم الهربُ، ولأبيكم ببغداد خمسمئة ألف دينار، فاهرُبوا وأَهْرُب.» ففعلوا وفعلتُ.
وبلغني قتلُهم بدمشق، وأنا بطرابلس، فدخلت إلى أنطاكية، وخرجت منها إلى ملطية، وبها المايسطرية خولة بنت سعد الدولة، فأقمت عندها إلى أن ورد عليَّ كتاب أبي القاسم، فسرت إلى ميافارقين، فكان يُسِرُّ حَسْوًا في ارْتِغاء؛ قال لي يومًا من الأيام: «ما رأيك؟» قلت: «أعرضت حاجة؟» قال: «لا، أردت أن ألعنك.» قلت: «فالْعنِّي غائبًا.» قال: «لا، في وجهك أشفى.» قلت: «ولِمَ؟» قال: «لمخالفتك إياي فيما تعلم.»
•••
وقلت له، ونحن على أُنْس، بيني وبينه: «لي حرمات ثلاث: البلدية، وتربية أبيه لي، وتربيتي لإخوته.» قال: «وهذه حُرم مهتكة، البلدية نسب بين الجدران، وتربية أبي لك مِنة لنا عليك، وتربيتك لإخوتي، بالخلع والدنانير.» أردت أن أقول له: «استرحت من حيث تعب الكرام.» فخشيت جنون جنونه.
•••
وقال لي ليلة: «أريد أن أجمع أوصاف الشمعة السبعة في بيت واحد، وليس يسمح لي ما أرضاه.» فقلت: «أنا أفعل من هذه الساعة.» فأخذت القلم، وكتبت بحضرته:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي
وفي هول ما ألقى وما أتوقع
نُحولٌ وحرقٌ في فناء ووحدةٌ
وتَسْهيدُ عين واصفرارٌ وأدمع
فقال: «كنتَ عملت هذا قبل هذا الوقت؟» فقلت: «تمنعني سرعة الخاطر، وتعطيني علم الغيب؟» وكان أبو القاسم ملولًا، لا يمل أن يمل، ويحقد حقدَ من لا تلين كبده، كأنه من كبره قد ركب الفلك، فلما رأيته سادرًا جاريًا في قلة إنصافي، على غلوائه، محوت ذكره عن صفحة فؤادي:
ففي الناس إن رثتْ حبالُك واصل
وفي الأرض عن ذات القلى مُتَحَول
وأنشدت الرجل أبياتًا، أعتذر بها في قطعي له:
فلو كان من الخير إذ كان شره
عتيدًا، لقلنا إن خيرًا مع الشر
ولو كان، إذ لا خير، لا شر عنده،
صبرنا، وقلنا: «لا يريش ولا يبري»
ولكنه شر، ولا خير عنده
وليس على شر، إذا دام، من صبر
وبغضي له — يشهد الله — حيًّا وميتًا، أَوْجَبَهُ أخذُه محاريب الكعبة الذهب والفضة، وضربها نقودًا ودراهم، وسماها الكعبية، وأنهب العرب الرملة، وضرب بغداد، وكم دم سفك، وحريم انتهك، وحرة أرمل، وصبي أيتم.
هوامش
[^1] هو علي بن منصور الحلبي، لقبه دوخلة، وكنيته أبو الحسن، ويُعرف بابن القارح، وكان مولده بحلب سنة ٣٥١، ولم يتزوج ولا أَعْقَبَ، وهو الذي كتب رسالته المشهورة المنشورة بالجزء الثالث من هذا الكتاب وبعثها إلى أبي العلاء، الذي أجابه عليها بهذه الرسالة الرائعة ووسمها برسالة الغفران. وسنبين سبب هذه التسمية في الكلام على رسالة الغفران أثناء ترجمة أبي العلاء.